. كون زواجه من كمال بشريته
إن مما أجمع عليه العقلاء وتواطأ عليه الفضلاء أن الزواج بالنسبة للبالغين من الرجال كمال وليس نقصا، وكذلك ما ينتج عنه من أولاد وذرية مما طبع كل إنسان على محبته والاعتزاز به، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14) ولذلك نرى ذكور كل شعب وقبيلة من البشر يتزوجون إذا بلغوا مبلغ الرجال، ويعدون من لم يتزوج منهم أو من لم يقدر على النكاح ناقصا غير كامل، وكذلك الأديان السماوية شرعت للناس الزواج عند توفر الشروط المادية والمعنوية، وعلى رأس من شرع لهم الزواج أنبياء الله تعالى ورسله قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} (الرعد: من الآية38).
ولذلك كان زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلا عمليا على كمال بشريته، حيث تزوج لما بلغ الخامسة والعشرين من عمره، بالسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وكانت قبله تحت عائذ بن عبد الله بن مخزوم فمات عنها فتزوجها بعده أبو هالة بن زرارة التميمي، ثم مات عنها ثم تزوجها رسول الله بعد أن أبدت له -رضي الله عنها- رغبتها في الزواج به صلى الله عليه وسلم لما رأت من سجاياه الكريمة وشيمه النبيلة، فبعثت إليه تقول: يابن العم إني قد رغبت فيك لقرابتك ووساطتك في قومك، وحسن خلقك وصدق حديثك، وكانت رضي الله عنها يومئذ من أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا، فذكر رسول الله ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب وعمه أبو طالب، حتى دخلوا على والدها خويلد فخطبوها إليه فزوجها, وأصدقها رسول الله عشرين بكرة، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، ورزق الرسول صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ستة من الولد هم القاسم وعبد الله ورقية وزينب وفاطمة و أم كلثوم، ولم يرزق من غيرها ولدا، إلا من مارية القبطية أم إبراهيم عليه السلام.
ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم بامرأة أخرى في حياة خديجة رضي الله عنها، ثم تزوج بمكة سودة بنت زمعة وهي ثيب إذ كانت قبله تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو، وكان قد هاجر إلى الحبشة فتنصر ومات بها كافرا فزوجه بها والدها زمعة بن قيس، ثم تزوج بعدها عائشة بنت أبي بكر الصديق، وكانت صغيرة السن، فلم يبن بها حتى هاجر إلى المدينة، ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي واستشهد في غزوة أحد، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية المخزومي، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد، ثم تزوج زينب بنت خزيمة أم المساكين، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب، ثم تزوج جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار الخزاعية من بني المصطلق، وكانت قبله عند مالك بن صفوان المصطلقي، ثم تزوج أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان وكانت قبله عند عبيد الله بن جحش وهو من مهاجرة الحبشة وتنصر ومات بها، ثم زوجه الله زينب بنت جحش وكانت قبله تحت زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تزوج صفية بنت حيي بن أخطب وكانت قبله عند سلام بن مشكم ثم كنانة بن الربيع، ثم تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية وكانت قبله عند عمير بن عمرو الثقفي ثم عمير أبى زهير، ثم تزوج شراف بنت خليفة الكلبي وتوفيت قبل أن يبني بها، ثم تزوج الشنباء بنت عمرو الغفارية، فلما مات إبراهيم قالت: لو كان نبيا ما مات ولده فطلقها، ثم تزوج عربة بنت جابر الكلابية، فلما قدمت إليه صلى الله عليه وسلم استعاذت منه بالله ففارقها، ثم تزوج العالية بنت ظبيان، بنى بها ثم فارقها وردها إلى أهلها لعلة كانت بها، وتسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية بنت شمعون القبطية وريحانة بنت زيد القرظية.
زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين
وكان من شرف نسائه صلى الله عليه وسلم أن كن تحت أفضل زوج و أعدله، وجعلهن الله أمهات لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (الأحزاب)، ولذلك حرم الله الزواج بهن حتى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب: من الآية53).
بيت الرسول الكريم والمشاكل الزوجية
وكان بيت زوج النبوة كسائر بيوت الزوجية فيما يحدث فيها من فرح وسعادة لما تغمره من مودة ورحمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21) و قد كان صلى الله عليه وسلم يداعب أهله ويضاحكهن، ليدخل السرور في نفوسهن.
غير أنه كان يحدث في بيته مشاكل مثل النقص في النفقة الواجبة أو المستحبة، وكذلك الغيرة بين الضرائر، والهجر أو الطلاق وهلم جرا، وهاك طرفا مما كان يحدث من ذلك في بيت زوج النبوة الطاهرة:
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: (حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر رظي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله لهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم: من الآية4) فحججت معه فعدل وعدلت معه بالإداوة فتبرز حتى جاء فسكبت على يديه من الإداوة فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله عز وجل لهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}؟ فقال: واعجبى لك يا ابن عباس عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال: إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصحت علي امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني فقالت: ولم تنكر أن أراجعك فوا الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل! فأفزعني فقلت خابت من فعل منهن بعظيم، ثم جمعت علي ثيابي فدخلت على حفصة فقلت: أي حفصة أتغاضب إحداكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ فقالت: نعم، فقلت: خابت وخسرت، أفتأمن أن يغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فتهلك، لا تستكثري على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه واسأليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -يريد عائشة- وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضربا شديدا وقال: أنائم هو؟ ففزعت فخرجت إليه وقال حدث أمر عظيم، قلت ما هو أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم منه وأطول طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قال قد خابت حفصة وخسرت، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون، فجمعت علي ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل مشربة له فاعتزل فيها، فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي قلت: ما يبكيك؟ أولم أكن حذرتك أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري هو ذا في المشربة، فخرجت فجئت المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلا ثم غلبني ما أجد فجئت المشربة التي هو فيها فقلت لغلام له أسود استأذن لعمر، فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرج فقال: ذكرتك له فصمت فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت فذكر مثله فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت استأذن لعمر، فذكر مثله، فلما وليت منصرفا فإذا الغلام يدعوني قال: أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه متكئ على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم: طلقت نساءك؟ فرفع بصره إلي فقال: لا، ثم قلت وأنا قائم أستأنس: يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم، فذكره فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قلت لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد عائشة، فتبسم أخرى، فجلست حين رأيته تبسم، ثم رفعت بصري في بيته فوا الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، وكان متكئا فقال: أو في شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت يا رسول الله استغفر لي فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة، وكان قد قال ما أنا بداخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله فلما مضت تسع وعشرون دخل على عائشة فبدأ بها فقالت له عائشة إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعدها عدا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الشهر تسع وعشرون وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين، قالت عائشة: فأنزلت آية التخيير فبدأ بي أول امرأة فقال: إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، قالت قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك، ثم قال: إن الله قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:28-29) إلى قوله: {عظيما} قلت: أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خير نساءه فقلن مثل ما قالت عائشة). رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.