مثّل 1492 .. علامة فارقة في التاريخ العالمي عامة والتاريخ الاسلامي خاصة. وكان بمثابة الحد الفاصل بين التفوق الاسلامي علي اوروبا، وبداية عصر التفوق الاوروبي علي العالم الاسلامي.
يحمل عام 1492 صورتين متناقضتين:
صورة الغرب، ولم يكن الغرب يعني انذاك سوي اوروبا، الآخذ بالصعود منهيا قرونه الوسطي ومفتتحا عصر النهضة.
.. وصورة الشرق، الذي لم يكن يعني آنذاك سوي العالم الاسلامي، الآيل الي التراجع والانحلال.
ففي ذلك العام شهد العالم حدثين من النوع التاريخي الاستراتيجي الكبير وهما :
الحدث الاول، سقوط الحكم الاسلامي في اسبانيا وخروج العرب منها بعد حوالي 500 سنة من الفتح، وتلك كانت اول ارض يخسرها المسلمون بعد حركة الفتوحات العظيمة التي أطلقها الاسلام.
الحدث الثاني، وصول طلائع المستكشفين الاوروبين بقيادة كريستوفر كولومبس الي القارة الاميركية بحثا عن الذهب، الذي سيكون له اكبر الاثر ليس في اخراج اوروربا من ازمتها الاقتصادية في تلك الفترة فقط، وانما في توفير المستلزمات المادية لنهضتها الحديثة التي ستتفوق بها علي كل العالم حتي اليوم ايضا.
قبل ذلك كان السلطان العثماني محمد الثاني حقق حلم المسلمين القديم بفتح القسطنطينية في عام 1453، وهو حدث كان له ايضا اثر كبيرا في النهضة الاوروبية التي حدثت بعد ذلك، ولعل استعادة غرناطة شكلت من الناحية النفسية تعويضا عن خسارة القسطنطينية.
بحلول عام 1492 بدأ عنصر النهضة الاوروبية الذي لم ينته من الناحية الزمنية سوي في عام 1610 ليبدأ بعده العصر الحديث.
وفي هذا العصر حقق الاوروبيون عددا من الثورات المهمة علي مختلف المستويات:
فعلي الصعيد الفكري أنجز المفكرون الاوروبيون مفاهيم جديدة عن العلم والطبيعة والدين والاخلاق الفردية والاجتماعية. وظهر العلماء الذين تمكنوا من تقديم تفسير علمي جديد للكون والطبيعة.
وعلي الصعيد الديني جاءت النهضة الاوروبية بمفهوم جديد عن العقيدة تركز علي حرية الضمير او الوجدان.
وعلي الصعيد الاخلاقي ادت الثورة الدينية الي احداث تبدلات علي صعيد القواعد الاخلاقية، بما في ذلك ظهور فكرة وحدة الجنس البشري وفكر التقدم.
وعلي الصعيد السياسي سجل القرن السادس عشر اربع وقائع مهمة بشرت بعهد جديد في السياسة الاوروبية هي:
1 ــ تشكل الدول الحديثة وظهور فكرة القومية
2 ــ تهيئة الفكرة الديمقراطية
3 ــ تعصير السياسة
4 ــ تبدل العلاقات الدولية.
أخيرا تمثل الثورة الاقتصادية المعلَم الاكثر اهمية في نهضة اوروبا الحديثة حيث حصل التبدل العميق في الاقتصاديات الاوروبية اثر الاكتشافات البحرية الكبري التي ساعدت علي نمو النشاط التجاري وتدفق المعادن الثمينة وخاصة الذهب من امريكا وانتشارها في السوق الاوروبية عن طريق اسبانيا(1).
في مقابل هذا، وفي العام نفسه، كان العالم الاسلامي يقطع الخطوات الكبيرة في رحلة الهبوط والتخلف التي انتهت به الي الاحتلالات الاوروبية لمعظم اقطاره وارضيه.
والحق ان نكسة عام 1492 وماتلاها لم تبدأ من ذلك العام تحديدا، وانما هي ثمرة عوامل كانت تتراكم في بنية المجتمع العربي والاسلامي منذ سنوات، بل قرون سابقة.
فمنذ تكون العالم الاسلامي علي يد الرسول محمد ثم في عهود خلفائه التي شهدت حركة الفتوحات العظيمة، كانت هناك قوتان تؤثران في المجري التاريخي للمجتمع الاسلامي، ومن ضمنه بطبيعة الحال المجتمع العربي، وهاتان القوتان هما:
الطاقة الحرارية الثورية التي اوجدها الاسلام، وما يكتنزه من قيم تقدمية تحث علي العمل والابداع واستثمار الطبيعة والعدالة والحرية والمساواة، في رحم المجتمع، والتي استمرت تؤتي اكلها لفترة طويلة.
وعوامل التراجع التي كان تأثيرها يتعاظم كلما كبرت المسافة الزمنية الفاصلة بين عهد الاسلام الاول وبين المسلمين في الاجيال اللاحقة، حتي تحول الاسلام الي تراث يعيش في ذاكرة المجتمع وفي كتب العلماء والفقهاء.
ويمكن تنظيم عوامل التراجع والتخلف بما كما يلي:
العامل الاول: الاستبداد واحتكار السلطة وظهور الطبقة العسكرية التي استنزفت ثروات الامة.
جاء الاسلام ثورة تحريرية لتحرير الانسان من الداخل ومن الخارج واقامة حكم عادل يستند الي ارادة الناس. وكان القرآن بمثابة وثيقة الهية للحرية الانسانية. وكان علي الناس الذين تلقوا الاسلام، وهم العرب بشكل اساسي، ان يكرسوا مسيرة الحرية التي انطلقت منذ اليوم الاول لنزول الوحي الالهي بقوله تعالي إقرأ .
ولكن المؤسف ان مسيرة الحرية هذه انتكست ولم تحقق تراكمات تجعل منها صخرة صلدة لا يمكن كسرها، كما كانت قضية الحرية والديمقراطية في اوروبا وبريطانيا تحديدا ثمرة مسيرة طويلة بدأت عام 1215 باعلان لائحة الماجنكارتا، ثم تراكمت انجازات هذه المسيرة حتي وصلت الي ما هي عليه الآن.
طرح مبدأ الاستبداد بالسلطة نفسه بقوة في وقت مبكر في المجتمع الاسلامي ــ العربي، واول من طرحه المهاجرون حين اصروا علي ان يكون الحكم فيهم وليس في الانصار، وذلك بعد وفاة الرسول محمد. لقد اعتقد هؤلاء ان الحكم يجب ان يكون محصورا في قريش فقط علي اساس ان العرب سوف لن ترضي ان يكون خليفة رسول الله من خارج القبيلة التي ينتمي اليها الرسول. وهذا منطق قبلي بحت، كما هو واضح، ولعله لا يمت الي التعاليم التي جاء بها الرسول القرشي!
وكان استيلاء معاوية علي السلطة بداية لتكريس احتكار احد بيوت قريش للخلافة في العصر الاموي، ثم احتكارها من قبل بيت اخر في العصر العباسي.
ومنذ ذلك الحين ثبت الفقهاء شرط القرشية في تولي الخلافة. وقالوا: من شرط الامامة النسب من قريش (..) علي خلاف قول من زعم من الضرارية ان الامامة تصلح في جميع اصناف العرب وفي الموالي والعجم، وخلاف قول الخوارج بامامة زعمائهم الذين كانوا من ربيعة وغيرهم (..) عنادا منهم لقول النبي (علي الله عليه وسلم): الأئمة من قريش (2).
وقال الماوردي (ت 450 هجرية) ان شرط النسب القرشي ثبت بالنص والاجماع معا، مستندا الي امرين ، اولهما : ان ابا بكر احتج بقول الرسول (علي الله عليه وسلم): الأئمة من قريش ، وثانيهما: ان الرسول قال: قدموا قريشا ولا تقدموها ، وعلّق علي هذا النص قائلا: وليس مع هذا النص المسلم شبهة لمنازع فيه ولا قول لمخالف له !
وتوسع القلقشندي (756 ــ 820 هجرية) في شرح الشرط القرشي وقال إن الامامة لا تنعقد بدونه، مستندا الي رواية عبد الله بن عمر عن الرسول انه قال: لا يزال هذا الامر في قريش ما بقي منهم اثنان (4).
وقد اصطدم مفهوم تداول السلطة بهذا الحديث الذي حظي باهتمام جمهور العلماء ووقع فيه خلاف شديد بينهم وهم يروونه عن النبي(علي الله عليه وسلم) بطرق وصيغ عدة منها كما في مسند ابي داوود عن انس ان النبي قال: الائمة من قريش اذا حكموا عدلوا واذا عاهدوا وفوا وان استرحموا رحموا فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين لا يقبل منهم صرف ولا عدل .
كما رواه البخاري باللفظ التالي: ان هذا الامر في قريش لا يعاديهم احد الا كبه الله علي وجهه ما اقاموا الدين وفسر ابن حجر العسقلاني الامر بالخلافة.
وقد اعتبرت اغلبية المدارس الفقهية والسياسية النسب القرشي شرطا لازما لانعقاد الخلافة فلا يكون من غير قريش خليفة بينما اعتبره بعض آخر شرط افضلية خاصة وان الاحاديث المتعلقة بالمسألة اضافت شرط اقامة الدين الامر الذي فهم منه بعض جواز خلافة غير القرشي في مقابل القرشي الذي لم يقم الدين.
وقد افرد العالم والمؤرخ المستنير ابن خلدون (ت 808 هجرية) ثلاث صفحات في مقدمته الشهيرة لتبرير هذا الشرط، والحكمة فيه، معتبرا انه أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة .
ومهما يكن من خلاف الفريقين فان الجو العام للحديث من شانه ان يقيد مساحة تحرك مفهوم تداول السلطة في المجتمع الاسلامي وحدود هذه المساحة هي: قريش التي ستصبح نخبة حاكمة يتداول ابناؤها في ما بينهم السلطة وما علي غير القرشيين سوي البيعة والطاعة.
وهذا ما حصل فعلا خلال الفترة من 25ربيع الاول عام 41 هجرية الي محرم عام 656 هجرية حيث احتكرت قريش السلطة في الدولة الاسلامية علي مدي عهدين كاملين هما العهد الاموي والعهد العباسي. ولم يحصل في السلطة الا علي مستوي انتقالها من البيت الاموي الي البيت العباسي عام 132 ولم يكن ذلك الانتقال سلميا او من خلال قوانين او اعراف تسالم عليها المجتمع المدني وانما خلال ثورة مسلحة ادت في نهاية المطاف الي مقتل الخليفة الاموي الاخير مروان بن محمد.
وحين ادركت القوي الجديدة الصاعدة انه لا مجال امامها لتولي السلطة علي اساس مبدأ تداول السلطة، تم اللجوء الي مبدأ تقاسم السلطة، مع الابقاء علي الخلافة القرشية كرمز للسلطة المركزية، لكن مع اضعافها ايضا. ومن نافلة القول ان نشير الي ان هذا التقاسم لم يكن سلميا ولا ديمقراطيا وانما تم فرضه عن طريق الحروب المتواصلة بين القوي الجديدة الصاعدة وبين قوات مؤسسة الخلافة المتداعية.
وحينما اخذت الدول العربية والاسلامية تحقق استقلالها السياسي بعد عصر الاستعمار، كررت الدول الجديدة وكان اكثرها تحت قيادة النخب السياسية العلمانية التعريبية التجربة نفسها، فاعادت انتاج الاستبداد، تحت دعاوي مقايضة الديمقراطية والحرية بالتنمية، فاضاعت الطريقين، حيث لم تتحقق التنمية ولم تتحقق الحرية، فكانت النكسة السياسية العربية مضاعفة في عصر الدول القطرية الحديث. وكما كان الاستبداد القديم سببا للقطيعة بين المجتمعات الاسلامية والعربية في الماضي، اصبح الاستبداد الحديث سببا للقطيعة بين هذه المجتمعات وبين النهضة الحديثة التي سبقتنا اليها اوروبا.
ان الحرية شرط التقدم، فيما يوفر الاستبداد البيئة الاجتماعية المناسبة للتخلف الشامل، ذلك ان المجتمع الذي يعاني من الاستبداد لا يمكن ان يبدع ما دام مكبوتا من جهة وما دام مسكونا بهم التخلص من الاستبداد عبر المؤامرات وعمليات الاغتيال والثورات والحروب من جهة ثانية، وهذه كلها مظاهر تؤدي الي هدر طاقات المجتمع وتدمير ثرواته.
العامل الثاني: الحروب الداخلية ــ الاهلية.
الحروب الاهلية هي احدي ثمار الاستبداد من جهة، ونتيجة مباشرة لغياب الآليات المناسبة لتحقيق التسويات السياسية بين قوي المجتمع ومصالحها المتناقضة بطريقة سلمية.
وقد عالج القرآن الكريم احتمال نشوب حروب اهلية بين المسلمين، في احدي سوره المدنية، حين قال:
وَ إِن طائفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَيْنهُمَا فَإِن بَغَت إِحْدَاهُمَا عَلي الأُخْرَي فَقاَتِلُوا الّتي تَبْغِي حَتي تَفِيءَ إِلي أَمْرِ اللّه؛ِ فَإِن فَاءَت فَأَصلِحُوا بَيْنهُمَا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطوا إِنّ اللّهَ يحِب الْمُقْسِطِينَ. إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيْكمْ وَ اتّقُوا اللّهَ لَعَلّكمْ تُرْحَمُونَ" (الحجرات 9 ــ10)
وتقدم هذه الآية المبادئ الثلاثة المهمة التالية في هذا المجال:
المبدأ الاول، ضرورة قيام العلاقات الداخلية بين المسلمين علي اساس الاخوة الايمانية ، اي قيام العلاقات في المجتمع الاسلامي علي اساس وحدة الانتماء الايماني المنتج للاخوة غير النسبية.
المبدأ الثاني، المبادرة الي مصالحة الاطراف المتنازعة والمتحاربة بالعدل والقسط، عبر بالمفاوضات والخيارات السلمية الممكنة، علي اساس تحكيم الشريعة الاسلامية.
المبدأ الثالث، معاقبة الطرف الذي يصر علي الحرب، ولا يذعن لشروط الصلح التي اقرها مجتمع المسلمين.
ويسكت القرآن عن آلية اجراء المفاوضات وتحقيق الصلح ومعاقبة من يرفض الصلح تاركا هذه التفاصيل التنظيمية للمسلمين انفسهم لكي يبتدعوا منها ما يشاءون بما يناسب حاجاتهم ودرجة تطور وتعقد مجتمعاتهم.
ولكن هذه المبادئ الثلاثة لم تنجح في تجنيب الحروب الاهلية بين المسلمين بسبب ضعف الوازع الديني من جهة وتفاقم الخلافات السياسية والدينية وتناقض المصالح بين قوي المجتمع الاسلامي والعالم الاسلامي من جهة ثانية، وعدم تمكن المجتمع الاسلامي من ابتداع الصيغ التنظيمية والاليات التي تتكفل بادارة الخلافات التي تنشأ بين اطرافه بصورة سلمية من جهة ثالثة.
ولهذا سرعان ما شهد المجتمع الاسلامي الاول اول حرب اهلية في تاريخية، والتي حدثت بين النخبة التي قامت علي اكتافها الدعوة الاسلامية والدولة الاسلامية، واعني بذلك حرب الجمل في خلافة علي بن ابي طالب.
وبعد ذلك اصبحت الحروب الاهلية احدي سمات الحياة العامة في مجتمع المسلمين خاصة بعد ان اتسع وعبر الي ثلاث قارات معروفة هي اسيا وافريقيا واوروبا.
وكانت الحروب الاهلية الاسلامية تنشب علي مستويات عدة:
المستوي الاول، حروب بين اركان الحكم والنخب الحاكمة المؤلفة من الخلفاء والامراء وافراد العوائل الحاكمة، ومن ابرز امثلة هذا المستوي الحرب بين الامين والمأمون ولدي الخليفة العباسي المشهور هارون الرشيد.
المستوي الثاني، حروب بين الحكم وقوي المجتمع الصاعدة والمعارضة، امثال الحروب التي كانت تنشب بين الخوارج والسلطة الاموية والعباسية، ثم بين الطالبيين والدولة العباسية ويضاف اليهم الحروب بين القادة العسكريين ومركز الخلافة. ولعل هؤلاء قاموا بأكبر دور تخريبي في تاريخ المجتمعات الاسلامية، من ذلك ما قام به ابن رائق مثلا في عام 324 للهجرة من الاستيلاء علي العراق رغم وجود الخليفة العباسي الراضي فيها، الامر الذي ساهم في تدهور الاوضاع في اقاليم الخلافة المختلفة، حيث بطلت الدواوين من ذلك الوقت وبطلت الوزارة فلم يكن الوزير ينظر في شيء من الامور، انما كان ابن رائق وكاتبه ينظران في الامور جميعها وكذلك كل من تولي امرة الامراء من بعده وصارت الاموال تحمل الي خزائنهم فيتصرفون فيها كما يريدون، ويطلقون للخليفة ما يريدون، وبطلت بيوت الاموال وتغلب اصحاب الاطراف وزالت عنهم الطاعة ولم يبق للخليفة غير بغداد واعمالها، والحكم في جميعها لابن رائق وليس للخليفة حكم وتقاسم القادة العسكريون الآخرون بقية ولايات الدولة الاسلامية التي لم يبق من وحدتها الا الاسم، كما يصور بصورة تفصيلية ابن الاثير في الكامل في التاريخ . (ج6، ص 255 ــ 256)
المستوي الثالث، حروب بين قوي المجتمع نفسها، حيث كثيرا ما كانت تنشب الحروب بين فئات مختلفة في المجتمع لأسباب متباينة.
المستوي الرابع، حروب بين امراء الولايات المختلفة في الدولة الاسلامية الواحدة. وكثيرا ما كانت تشب الحروب بين ولاة الاقاليم من القادة العسكريين انفسهم حين يطمع كل قائد منهم بولاية القائد الآخر، وهي حروب كان الناس من سكان الولايات المعنية هم الذين يدفعون ثمنها مزيدا من الدمار والتخلف وغلاء الاسعار وانصرافا عن العمل والانتاج والابداع.
المستوي الخامس، حروب بين الدول الاسلامية بعد ان تعددت. بقيام الدولة الاموية في الاندلس والدولة الفاطمية في مصر الي جانب الدولة العباسية في العراق فقد العالم الاسلامي وحدته السياسية. وبسبب عدم التحايث بين هذه الدول من الناحية الجغرافية لم تحصل بينها حروب علي مواقع اقليمية، لكن تاريخ علاقة الدولة العثمانية في تركيا والدولة الصفوية في ايران مثلا شهد كثيراً من الحروب بينهما بدون وجود أية آلية يمكن الاحتكام اليها لفض النزاع وانهاء الحرب سوي الحرب نفسها.وكان العراق هو مسرح عمليات الحروب الصفوية العثمانية.
العامل الثالث، الغزوات الخارجية.
بقي العرب فترة طويلة من حياتهم غزاة فتحوا البلدان ووصلوا الي المحيط الاطلسي من جهة الغرب والمحيط الهادي من جهة الغرب، فضلا عن التوغل في اطراف اوروبا واعماق اسيا ومجاهل افريقيا.
لكن شاءت الأقدار ان يسجل للبابا اريان الثاني (1088 ــ 1099) قيامه بتغيير المعادلة. فقد كانت خطبته التي القاها في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من سنة 1095 ايذانا باعلان الحروب الصليبية الاوروبية علي العالم الاسلامي(5)، التي شكلت في جوهرها الرد الاوروبي علي الفتح العربي الاسلامي لاسبانيا الاوروبية، تلك الحروب التي لم تتوقف موقتا سوي في عام 1291 . واقول "مؤقتا" لأنني اعتقد انها استأنفت نشاطها مرة ثانية بعد طرد العرب من اسبانيا. وانني اتفق مع ما قاله الباحث د. قاسم عبده قاسم عن تلك الحروب الصليبية إنها كانت سببا رئيسا من اسباب تعطل قوي الابداع والنمو في الحضارة الاسلامية والعربية، حيث دخلت المنطقة العربية بعد نهاية فترة النضال ضد المحتلين الصليبيين في منحني التدهور والافول الذي استكمل دورته بالتوقف الحضاري التام ووقوع البلاد العربية في براثن التخلف والتبعية والاستعمار. وكان للحروب اثار كارثية علي المجتمعات الاسلامية من النواحي السياسية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية. فكان من نتائج ذلك سقوط نموذج الدولة المدنية التي يقودها الخليفة، الممثل نظريا علي الاقل لجملة من الشروط الحضارية، وقيام نموذج الدولة العسكرية التي يقوده ملك محارب، يكرس كل قدرات المجتمع للمجهود الحربي الامر الذي ادي بدوره في النهاية الي تدمير الانتاج الزراعي والحياة الاقتصادية.
وفي خضم الحروب الصليبية المدمرة تعرضت البلدان الاسلامية والعربية للغزو المغولي الذي وصل ذروته باحتلال بغداد واسقاط الدولة العباسية في عام 1258، بعيد سنوات من اعلان الماجناكارتا في بريطانيا. ومع ان المغول اسلموا في نهاية المطاف، الا ان تأثيرهم كان سيئا جدا علي مسيرة المجتمعات الاسلامية.
واخيرا تعرضت البلاد العربية للتوسع الاوروبي مباشرة بعد اكتشاف القارة الامريكية. ولعل البرتغاليين كانوا طليعة الاوروبيين الذين صاروا يهاجمون الشواطئ الجنوبية والشرقية من اسيا العربية، وقد ادت الاعتداءات البرتغالية علي البلاد العربية الي تدهور الاوضاع التجارية والاقتصادية في هذه البلدان. والمعلوم انه ما ان انتهت الحرب العالمية الاولي حتي كانت البلدان العربية كلها ترزخ تحت نير الاستعمارات الاوروبية، ونعرف ايضا ان كلفة حروب التحرير الوطني التي خاضتها الشعوب العربية كانت عالية جدا وكان من الافضل لو انها وجهت الي متطلبات التنمية ومحاربة التخلف وتحقيق التقدم الاجتماعي.
وبكلمة اخيرة ان الاستبداد والحروب الخارجية والحروب الداخلية عوامل ادت الي انهاك المجتمعات العربية والاسلامية واستنزاف طاقاتها البشرية وثرواتها الطبيعة وتدهور اقتصادياتها وبالتالي تعطل مسيرة الابداع والتطور والتقدم فيها.