طاهي الخطوط السعودية "الكفيف" يؤلف كتاباً
بلو: فقدان البصر لا يعني فقدان القدرة على الإبداع
جدة - صلاح الشريف:
لم تمنع الإعاقة البصرية الأستاذ محمد توفيق بلو من مواصلة طريق النجاح حتى أصبح مدير جمعية ابصار الخيرية، وجمع بلو بين العزيمة الصادقة وقوة الإرادة والثقة بالله ثم بالنفس، ويحكي بلو قصته مع الإعاقة البصرية، وعن كتابه "حصاد الظلام" الذي ألفه قائلاً:
"كثيراً ما أنسى أنني معوق بصرياً وأتعامل مع محيطي على هذا الأساس، ونتيجة لذلك أجد الكثيرين ممن أتعامل معهم بشكل يومي لا يشعرونني أبداً بأنني فاقد للبصر، لذا يكون تواصلنا مع بعضنا البعض طبيعياً وسهلاً".
ويضيف شعرت حين جلست أمام جهاز ال CCTV وأيضاً الحاسوب المزود بنظام إبصار القارئ في مركز إبصار بعد مضي سنة على افتتاحه في مستشفى المغربي بجدة بدعم من الأمير طلال بن عبدالعزيز آل سعود والدكتور أحمد محمد علي والدكتور عاكف مغربي وعدد من رجال الأعمال أن رؤية كتاب "حصاد الظلام" تتحقق فأصبحت سعيداً لأن حلمي الذي عملت من أجله سنوات طويلة يرى النور.
ويهدف كتاب "حصاد الظلام" إلى مساعدة المعاقين بصرياً بالاعتماد على أنفسهم، وفتح نوافذ أمل لهم لممارسة حياة كريمة منتجة ومثمرة، وأن يجد كل معوق في الكتاب حافزاً لإرادة مواجهة أقسى الظروف والانتصار عليها.
وقدم بلو قصة واقعية تلخص ما اكتسبه من خبرات وتجارب وعرض لتجربة السفر والعمل في مجال الضيافة الجوية، وطرح فيه مقترحات نظرية وعملية للحد من الآثار السلبية المنعكسة من الإعاقة البصرية، ومشروع عالمي لخدمة المعوقين بصرياً وهذا هو ما يرمي إليه كتاب "حصاد الظلام".
وأصدر الكتاب بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على بدء معاناة بلو البصرية بسببها صبغات وراثية في قاع العين تؤدي إلى فقدان تدريجي للإبصار. وروى فيه قصة حياته منذ أن تسلل الظلام إلى عينه إثر المرض الوراثي الذي أصيب به، وكيف أمضى سنوات طويلة من المعاناة. فقد فيها عمله، وساءت حالته المادية، وحرم من كثير من نشاطات الحياة التي عاشها وهو مبصر. ثم تحدى تلك الآثار ومقاومة الاستسلام لفقدان البصر والاستمرار في العمل بقوة من أجل مساعدة المصابين بفقدان البصر للتغلب على إعاقتهم من خلال طرح حلول وأفكار تقدم لهم كل العون لممارسة حياتهم اليومية بصورة طبيعية.
ويقول "تحدثت في البداية عن أمنيتي بالعمل كمضيف جوي والتي حلمت بها منذ أن كنت طفلاً في حي الشرفية بجدة أراقب الطائرات في إقلاعها وهبوطها. وبعد أربع سنوات من عملي كمضيف جوي ارتقيت لأصبح طاهياً جوياً متخصصاً في الخدمة الفندقية على الدرجة الأولى في الخطوط الجوية العربية السعودية، وهنا بدأت تجربتي المريرة عندما لاحظت وأنا في الرابعة والعشرين بأنني أواجه صعوبة في الرؤية عند الانتقال من النور إلى الظلام والعكس، وصعوبة في الرؤية ليلاً تسبب لي مشاكل في قيادة سيارتي".
ويضيف "وفي السادسة والعشرين من عمري وبعد مراجعات عديدة لأطباء العيون في المملكة أبلغني طبيب عيون أسباني أنني أعاني من مرض وراثي يؤدي إلى فقدان البصر تدريجياً، ومع أن الصدمة كانت كبيرة إلا أنني طلبت من زوجتي الأمريكية التي تزوجتها قبل ما يزيد عن سنة من ذلك الوقت أن تساعدني في إخفاء أمر مرضي عن أسرتي التي تعاني من مرض جدي لوالدتي الشاعر طاهر زمخشري الذي كفلني مع إخوتي بعد وفاة والدي".
واستوقفني خلال رحلتي مع الظلام تعامل الناس معي أثناء فقدان البصر رغم أن نظرتي لم تختلف للآخرين كثيراً لأنني كنت مبصراً في السابق. وهذا ساعدني على تكوين قاعدة عريضة لأشكالهم وصورهم، والتعرف على ما هو موجود حولي، وكل ما أقوم به هو مطابقة الأصوات التي أسمعها على الصورة الموجودة في الذاكرة. لذا أبرزت في الكتاب التغيرات النفسية والاجتماعية التي دارت من حولي خلال مرحلة الانتقال إلى عالم الظلام كمدخل لعكس الآثار السلبية المترتبة عن فقدان البصر.
وأوضح بلو أنه مع تقدم حالته المرضية بدأت مشكلته في العمل حيث كان يسكب السوائل على ركاب الطائرة أثناء صبها لعدم رؤيته للكأس، أو اصطدام يدي بالأطعمة والمشروبات على عربة الخدمة وغيرها مما سبب لي الكثير من الإحراج لكني عوضت عن ذلك بإعداد العربات بأشكال جميلة ومبتكرة بأسلوب مميز مع التهرب من الخدمة المباشرة للمسافرين. ولتفاقم حالتي البصرية تم تحويلي إلى عمل إداري أرضي لا يتناسب مع طموحاتي وإمكانياتي وشعرت كأن هناك نوعاً من الشفقة على حالتي مما آلمني كثيراً، وطالب بإعطائه فرصة للاستفادة من خبرته الوظيفية في حقل التدريب وكان واثقاً من قدراته التدريبية فتمت الموافقة على تعيينه كمدرب للطهاة الجويين باعتباره السعودي الوحيد الذي يملك خبرة ممتازة في هذا المجال. وقدم العديد من المقترحات للاستفادة من وضعه التدريبي منها تعليم المضيفات الأجنبيات مفردات اللغة العربية.
واستمر بلو في تحدي وضعه البصري عبر تقديم أداء وظيفي متميز حتى حصل في سنة 1991م على جائزة الأداء المثالي كأفضل مدرب، حتى انه قدم المزيد من الأفكار الجديدة ومنها وجبة الراكب الكفيف التي أقرها الاتحاد العالمي للتموين "IFCA" عام 1992م، ولم يتوقف عن العطاء حتى صدر قرار الصدمة بإحالته إلى التقاعد المبكر في العام نفسه وما ترتب عليه من فقدانه ثلثي دخله والكثير من المميزات التي كان يحصل عليها، وكان لفوز وجبة الراكب الكفيف بجوائز عالمية باعتبارها ابتكارا للخطوط السعودية دون ذكر محمد توفيق بلو كمبتكر لها. ثم ولادة ابني سندس مصابا بتشوهات قلبية خلقية وإجراء أكثر من عملية جراحية خطيرة له. أثراً بالغاً في إصابتي بحالة كبيرة من الإحباط والمعاناة، لكنني استطعت أن أتغلب على معاناتي وحزني، وقررت أن أخوض معركة التحدي لقهر الظلام، وازددت إيماناً وإصرارا على عدم الاستسلام للواقع وعدم تقبل العطف والشفقة من الآخرين، وساعدني على ذلك اتصالاتي واطلاعي على مطبوعات مراكز المعوقين في أمريكا التي مكنتني من التعرف على الطرق الحديثة التي يتم التعامل بها مع المكفوفين، فلكي يتغلبوا على إعاقتهم ويصبحوا قادرين على تصريف شؤون حياتهم بمفردهم دون الاعتماد على الآخرين لذلك يتم تدريب الكفيف هناك على أن يكون متساوياً مع الآخرين، وعلى التعامل مع الأشياء المحيطة به، وأن يكون شخصاً فعالاً ومنتجاً في مجتمعه.
فأضفت طموحاً جديداً إلى طموحاتي يتمثل في إصدار كتاب موسوعي يخدم العميان بشكل كامل بعد أن قرأت كتاب "نكت الهميان في نكت العميان" للصفدي الذي وجدت فيه الكثير من المعلومات في التعامل مع العمى، وأن علي بن أحمد زين العابدين أبو الحسن الحنبلي الآمدي كان أول من اخترع الكتابة البارزة للعميان سابقا بذلك لويس برايل الفرنسي بمئات السنين، وبعد أن استفاد من تجارب أشهر العميان في التاريخ مثل ابن أم مكتوم الذي ورد ذكره في القرآن الكريم والشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري.
ويضيف أحسست أن شيئا من اليأس بدأ يتسرب إلى داخلي نتيجة الإحباطات المتكررة والوضع المالي السيئ، ثم إصابة والدتي بحالة اكتئاب بعد أن علمت أن أولادها الثلاثة مصابون بإعاقة بصرية أخفوها عنها طويلا، وإصابة جدتي بجلطة دماغية أدت إلى عجزها التام، وحاجة ابني لإجراء عملية جراحية جديدة في القلب، قررت مواجهة الموقف بقوة وعدم الرضوخ، وأثناء وجودي في المستشفى مع ابني سندس ابتكرت فكرة لعلي أجد منها فرجاً وأسميتها: العناية الغذائية لمرضى المستشفيات" وتقوم على إعداد الوجبات بطريقة تتناسب والإمكانات الجسدية للمرضى".
ويقول انه اهتدى إلى برنامج تدريبي في أمريكا تقدمه "الجمعية الوطنية للمكفوفين" تدرب فيه على الاعتماد على النفس إلى الحد الذي أصبح فيه يطهو طعامه ويصلح بعض الأدوات المنزلية، ويضع لعبة لطفله. وطرح بلو فكرة مشروع لمساعدة المعوقين بصرياً وتعليمهم وتأهيلهم لحياة جديدة مع المبصرين. بعد أن التقى خلال برنامج الاعتماد الذاتي الخاص بالمكفوفين بالعديد من المتدربين المكفوفين وضعفاء البصر ومنهم المتدرب الياباني الذي سكن معه وهو شاب أعمى مبتعث من شركة يابانية متخصصة في خدمات العميان الثقافية والتعليمية والتكنولوجيا المساندة، ويرسل خلال التدريب تقارير صوتية إلى الشركة عن النشاطات الخاصة بالمكفوفين في الولايات المتحدة، وعلمه هذا اللقاء معنى الشجاعة وممارسة الأعمى حياة طبيعية وأعاد إليه الأمل بطرح فكرة المركز التي أعددتها، مضيفاً "أصبحت أمارس حياتي اليومية بصورة طبيعية جداً خصوصاً في التعامل مع الآخرين لدرجة أن الإنسان يفاجأ حين ألتقي به لاستجابتي السريعة لمصدر الصوت، خصوصاً حين اسلم وانظر إليه مرحباً به ذاكراً اسمه معتمداً على قدرتي الخاصة التي اكتسبتها في تمييز الأصوات فلا يستشعر أنه أمام إنسان معوق بصرياً لكن عندما أتحرك معتمداً على العصا البيضاء أو مساعدة شخص في التحرك بأي اتجاه يدرك المرء حجم المأساة البصرية التي أعاني منها.
تلك هي خلاصة تجربتي التي رويتها في كتاب "حصاد الظلام" التي تؤكد أن الصعوبة تكمن دائماً في البداية بالنسبة لأي شخص في كيفية التعامل، والتأقلم مع الواقع المفترض أن يعيش فيه ومدى تقبله له، سواء من الشخص ذاته أو من أفراد عائلته. وبالنسبة لي لم يكن الأمر مفاجئاً، لأنني أصبت بفقدان البصر تدريجياً، لذلك بدأت أعتاد على الظلام والتعامل مع الأشخاص والواقع الجديد من هذا المنطلق، مما ساعدني كثيراً على تخطي مشكلة فقدان البصر لأن البصر هو الرؤية الفسيولوجية لما يمكن إبصاره والتعرف عليه من خلال العين المجردة وفي حالة فقدانه تقوم الحواس التعويضية أو الوسائل البديلة باتمام المهمة. أما البصيرة هي الرؤية بالقلب من خلال الوعي والثقافة والطموحات والثقة بالنفس لأنها العناصر التي يستمد من خلالها المرء القدرة على مواجهة الآثار الناجمة عن فقدان البصر مهما كانت قتامتها. وفي حالة فقدان تلك العناصر فإن السقوط في الهاوية والغرق في وحل اليأس سيصبح على الإنسان أمراً حتمياً. وقدم من خلال الكتاب دليلاً مادياً إلى أن الإنسان يستطيع أن يحقق ما يريده بالقوة والعزيمة والإرادة وإثبات أن فقدان البصر لا يعني بالضرورة فقدان القدرة على الإبداع والطموحات، وعائق للتثقف والوعي.
وأشار في الكتاب إلى أن الكفيف في العالم العربي يفتقد إلى وسائل التكنولوجيا التي تربطه بالآخرين وتجعل حياته سهلة، فهو لا يزال يُدرب ويُعلم بواسطة وسائل تعتبر بدائية، كما أنه يُدرب على مهام لا يمكن الاستفادة منها مستقبلاً، والخدمات التي يحصل عليها تكون تأهيلية وإنسانية محدودة، تصب جميعها في إطار تقديم الحسنات والهبات. على الرغم من أن الكفيف يحتاج إلى دعم ومساندة عملية أكثر من الهبات المالية خصوصاً إذا كان لديه رؤية مستقبلية أو طموحات وظيفية. واستشهد بتجربته الوظيفية ورؤيته للحقائق التفاؤلية واستشفاف بعض الأحداث والطموحات التي تحققت إبان عمله السابق ملاح جوي في الخطوط السعودية.
يذكر أن لمحمد بلو عدداً من الأبحاث والدراسات منها:
"العوق والمعوقين بصرياً في المملكة العربية السعودية"، و"المزايا والشروط لإنشاء وتشغيل مبنى إبصار، دراسة فنية"، و"المشاركة في إعداد النظام الأساسي لجمعية إبصار"، ودراسة مالية واقتصادية لمشروع استثماري/ خيري".
وأصدر من الكتب:
"كتاب الماسة السمراء - بابا طاهر زمخشري القرن العشرين - الجزء الأول عن حياة"، كتاب "حصاد الظلام".